الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: حراسة الفضيلة **
تعددت الدلالة في هاتين الآيتين الكريمتين على فرض الحجاب وتغطية الوجه من وجوه أربعة مترابطة، هي: على حدٍّ سواء في الآية الأولى وصدر الآية الثانية، وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنى، وأن غض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأبعد عن الوقوع في هذه الفاحشة، وإن حفظ الفرج لا يتم إلا ببذل أسباب السلامة والوقاية، ومن أعظمها غض البصر، وغض البصر لا يتم إلاّ بالحجاب التام لجميع البدن، ولا يرتاب عاقل أن كشف الوجه سبب للنظر إليه، والتلذذ به، والعينان تزنيان وزناهما النظر، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولهذا جاء الأمر بالحجاب صريحًا في الوجه بعده. أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب عن عمد وقصد، إلا ما ظهر منها اضطرارًا لا اختيارًا، ما لا يمكن إخفاؤه كظاهر الجلباب ـ العباءة، ويقال: الملاءة ـ الذي تلبسه المرأة فوق القميص والخمار، وهي ما لا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، فإن ذلك معفوٌّ عن . وتأمل سِرًا من أسرار التنزيل في قوله تعالى: وفي الاستثناء : لما أوجب الله على نساء المؤمنين الحجاب للبدن والزينة في الموضعين السابقين، وأن لا تتعمد المرأة إبداء شيء من زينتها، وأن ما يظهر منها من غير قصد معفو عنه، ذكر سبحانه لكمال الاستتار، مبينًا أن الزينة التي يحرم إبداؤها، يدخل فيها جميع البدن، وبما أن القميص يكون مشقوق الجيب عادة بحيث يبدو شيء من العنق والنحر والصدر، بيَّن سبحانه وجوب ستره وتغطيته، وكيفية ضرب المرأة للحجاب على ما لا يستره القميص، فقال عز شأنه : والـخُمر: جمع خِمار، مأخوذ من الخمر، وهو: الستر والتغطية، ومنه قيل للخمر خمرًا؛ لأنها تستر العقل وتغطيه، قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في [فتح الباري: 8/489] : ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها . انتهى . ويقال: اختمرت المرأة وتخمَّرت، إذا احتجبت وغطَّت وجهها . والجيوب مفردها: جيب، وهو شق في طول القميص . فيكون معنى: ويدل لهذا التفسير المتسق مع ما قبله، الملاقي للسان العرب كما ترى، أن هذا هو الذي فهمه نساء الصحابة رضي الله عن الجميع، فعملن به، وعليها ترجم البخاري في صحيحه، فقال: (( باب: وليضربن بخمرهن على جيوبهن)) ، وساق بسنده حديث عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرين الأول، لما أنزل الله : قال ابن حجر في [الفتح: 8/489] في شرح هذا الحديث: (( قوله: فاختمرن: أي غطين وجوههن - وذكر صفته كما تقدم - )) انتهى . ومَن نازع فقال بكشف الوجه؛ لأن الله لم يصرح بذكره هنا، فإنا نقول له: إن الله سبحانه لم يذكر هنا: الرأس، والعنق، والنحر، والصدر، والعضدين، والذراعين، والكفين، فهل يجوز الكشف عن هذه المواضع؟ فإن قال: لا، قلنا: والوجه كذلك لا يجوز كشفه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة، وكيف تأمر الشريعة بستر الرأس والعنق والنحر والصدر والذراعين والقدمين، ولا تأمر بستر الوجه وتغطيته، وهو أشد فتنة وأكثر تأثيرًا على الناظر والمنظور إليه؟ وأيضًا ما جوابكم عن فهم نساء الصحابة رضي الله عن الجميع في مبادرتهن إلى ستر وجوههن حين نزلت هذه الآية ؟ لما أمر الله سبحانه بإخفاء الزينة، وذكر جل وعلا كيفية الاختمار، وضربه على الوجه والصدر ونحوهما، نهى سبحانه لكمال الاستتار، ودفع دواعي الافتتان، نساء المؤمنين إذا مشين عن الضرب بالأرجل، حتى لا يُصوَّت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بذلك، فيكون سببًا للفتنة، وهذا من عمل الشيطان. وما عليهن من الزينة، فلا يجوز لهن كشفها. وإنه من باب الأولى والأقوى يحرم سفور المرأة وكشفها عن وجهها أمام الأجانب عنها من الرجال؛ لأن كشفه أشد داعية لإثارة الفتنة وتحريكها، فهو أحق بالستر والتغطية وعدم إبدائه أمام الأجانب، ولا يستريب في هذا عاقل . فانظر كيف انتظمت هذه الآية حجب النساء عن الرجال الأجانب من أعلى الرأس إلى القدمين، وإعمال سد الذرائع الموصلة إلى تعمد كشف شيء من بدنها أو زينتها خشية الافتتان بها، فسبحان من شرع فأحكم .
|